استطاع أحمد السقا في "إبراهيم الأبيض" أن يأخذ بيد سينما الأكشن المصرية نحو بر الاحتراف وشط الإتقان مبتعدا بها عن استعباط المشاهد الذي كانت تتمتع به مشاهد الأكشن "المضروبة"، عرّفنا السقا وكتيبة عمل "إبراهيم الأبيض" كيف تكون معارك الأسلحة البيضاء بكل أنواعها في أقصى "مجاري" العشوائيات حيث تكون أصوات احتكاك السيوف والمطاوي هي السيمفونيات المفضلة لدى محترفي البلطجة وتجارة المخدرات\
من جديد يثبت السقا أنه لا يطيق القوالب، وأن موهبته التمثيلية صلصال يشكله كيفما يريد ويصنع منها الشخصية تلو الأخرى، وفي هذه المرة نجح السقا في الخروج بدور بلطجي العشوائيات بصورة جعلت كل من في قاعة السينما يقطع بأنه عاش هذه الحياة في يوم ما -طبعا القطع هنا على سبيل المبالغة المتأثرة بمشاهد الأكشن-، فجاءت شخصية "إبراهيم الأبيض" ذلك الطفل الصغير الذي عاش طفولته بين حواري العشوائية قبل أن يجد والده صريعا.. طريح الأسفلت بعد أن قتلته جارتهم (سوسن بدر) وزوجها عقابا له على تطاول يد ابنه إبراهيم على ابنها المعاق ذهنيا، وما كان من إبراهيم إلا أن قتل قاتل والده.. رغم أن عمره لم يتعد العاشرة، ولكن هذا هو قانون العالم
ا لسفلي للقاهرة -كما وصفه صناع الفيلم
الأداء التمثيلي إتقان السقا لدوره لم ينحصر فحسب في الماكياج البارع من إبداع الماكيير الفرنسي "دومينيك كولادنت" الذي تطابق مكياجه مع الأشكال الحقيقية لهذه النوعية من البشر، وإنما المكياج لم يكن ليترك التأثير ذاته الذي تركه لو لم يصحبه أداء تمثيلي متكامل لإبراهيم الأبيض تناسق فيه طريقة الكلام المتثاقلة دائما بفعل المواد المخدرة التي يتعاطاها بالإضافة إلى لكنته العامية الدارجة لدرجة لا يجد معها أي غضاضة في ذكر أمثال شعبية بذيئة
اللياقة البدنية التي أظهرها السقا أيضا في مشاهد المعارك والتي لم تعطنا إحساسا ولو للحظة أن هذه المعارك ليست حقيقية لعبت دورا في إخراج تورتة العمل بهذا الشكل، وبالطبع لن نتطرق إلى نقطة غياب الدوبلير، وهو الأمر الذي عودنا عليه السقا منذ مدة خصوصاً في مشهد اشتعال النيران في جسده الذي أداه السقا بنفسه ضارباً بالحائط كل احتمالات إصابته المحتملة جداً
ولم يكن إبراهيم الأبيض ليصمد في عالم السنج والمطاوي والكزالك بدون صديق مخلص يحميه وهو عمرو واكد في دور "العشري" الذي شارك الأبيض في كل شيء من الضرب لتهريب مخدرات وتعاطيها انتهاء بالسجن... إلخ
والمتابع لدور عمرو واكد في الفيلم سوف يكتشف مع مرور أحداثه تباعا أن نسبة المشاهد تكاد تكون متساوية بينه وبين أحمد السقا، لدرجة يستحق معها أن يكون بطلا للفيلم بالمشاركة مع محمود عبد العزيز وأحمد السقا، حيث كان الأكثر إقناعا في دوره متمثلا ذلك في المكياج العبقري له من جانب (السوالف الطويلة، والشعر الأشعث) وكذلك مصممة الملابس "ناهد نصرالله" التي أحسنت اختيار نوعية الملابس الدارجة لدى هذه الطبقة من جانب آخر، انتهاء بأداء "العشري" التمثيلي الذي خرجت من خلاله الكلمات والألفاظ تلقائية بدرجة مدهشة وكأنه بالفعل يتحدث حديث كل يوم لبلطجي في دنيا عشوائيات قاهرة المعز.
صداقة العشري بإبراهيم الأبيض صداقة ليس لها حدود؛ ولكن على ما يبدو فالعشري كان دائما نقطة ضعف عندما تسبب في ضياعإبراهيم الأبيض وخاصة أحد أكياس المخدرات التي كان منوطا به توصيلها لصاحبها فقرر إبراهيم الأبيض أن يستعيد الكيس بنفسه من "سيد شيبة" المسئول عن سرقتها وهو أحد رجال "عبد الملك زرزور" –محمود عبد العزيز-.
عبد الملك زرزور ملك المكان ومالكه بكل ما فيه من بلطجية وسنج ومطاوي وسيوف ومخدرات... الخ، تحت يده اليمنى أسطول من بلطجية العشوائيات وتحت يده اليسرى أموال يصعب على العين حصرها وعدّها، جمعها من بيع المخدرات (هيروين-أفيون-حبوب..الخ)، بكلمة منه تنتهي حياة من لا يطيع أوامره، وبكلمة أخرى يعطيه فرصة جديدة في الحياة، وهكذا فعل مع إبراهيم الذي كادت حياته تنتهي بين جنازير وسيوف رجاله فأعاد له كيس المخدرات، وجنّده للعمل معه، وذلك انطلاقا من مبدأ أرساه بنفسه (لو في بيتك نخلة مدت فروعها ومضايقاك.. تعمل إيه؟ تقطعها ولا تاخد بلحها الأول؟
استطاع محمود عبد العزيز من خلال فيلم "إبراهيم الأبيض" أن يبني جسرا متينا يعود به إلى عالم السينما بقوة بالغة أذهلت بها كل من تابعه، وتمكن من أن يصدر إحساس الرعب والخوف منه حتى للمشاهدين في قاعة السينما، وذلك من خلال إتقانه لنبرة الصوت المختلفة والمتماشية مع هذه الشخصية من جانب، بالإضافة إلى نظراته النافذة والتي تعبر عن ثقل تمثيلي نفض عنه غبار السنين لتوه، فضلا عن طريقة إلقائه نص السيناريو في مختلف حالاته سواء التهديد أو الغضب أو حتى الحب.
أبدع عبد الملك زرزور أيضا في الجمع بين شخصية الزعيم الآمر الناهي، وبين شخصية العاشق السقيم بحبه لفتاة استعصت عليه دون عشرات الفتيات غيرهن، لم يملك انتزاع الحب من قلبها ولا حتى تصدير حب أنابيب لقلبها؛ فحكم عليها بـ"البوار" فكل من يقترب منها يموت، كل من يفكر أن يجتمع بها في فراش زوجية فيجمعه على الفور فراش الموت فهي ليست أي فتاة إنها حورية –هند صبري
[size=18]من عجائب القدر أن يتضح أن حورية تلك الفتاة التي يعشق عبد الملك زرزور التراب الذي تلامسه قدميها، وعلى استعداد أن يضع كلمة النهاية لحياة كل من يفكر في أن يقترب منها -هي نفسها الفتاة التي يعشقها إبراهيم الأبيض.. إبراهيم الأبيض الذي أصبح الذراع اليمنى للمعلم زرزور، وحورية هي نفسها ابنة المرأة والزوج الذين قتلا والد إبراهيم وقتل والدها وهكذا عبّر الأبيض عن اندهاشه قائلا لوالدة حورية ازاي حية تجيب حورية، فتزوجت زرزور نكاية فيه وحرّضت صديقه "عشري" بأن يسلمه لزرزور كي يؤدبه فقط، وإلا فضحت أمر تعديها عليها في أثناء وجود "الأبيض" في السجن .هند صبري أتقنت دورا لم تستطع أي فتاة مصرية متأصلة أن تقوم به بهذا الشكل، تجلّى ذلك في الطريقة التي كانت تمشي بها والعبارات التي أتقن السينارست حبكها، حتى عندما أصبحت ملكة متوجة على عرش مملكة زرزور بقيت بكل ما فيها من صفات بنت البلد التي تضرب بالشبشب وقت اللزوم، وتشتم وتسب وقت اللزوم.
مآخذ فنية...ولكن
وكأي عمل فني من المحال بمكان أن يقف كاملا دون عيوب حيث شاب عمل إبراهيم الأبيض بعض العيوب، وكان أبرزها ضعف السيناريو بعض الشيء، وتجلّى ذلك في مشهد الختام الذي يسلم فيه عشري صديقه "الأبيض" لأنياب زرزور فيقتله ويقتل عشري ويقتل حورية، وبرغم براعة تصويره إلا أن الخاتمة كانت مبهمة وتقليدية للغاية خاصة وأن السقا أعطانا انطباعا في أكثر من مرة أنه سوف ينجو ويستكمل مشواره ولكنه ما لبث وأن سقط ميتا بين أحضان حورية
البعض أيضا يعيب على الاستخدام المفرط للدماء في المشاهد ووجود بعض المشاهد القاسية نوعا ما على أعين المشاهدين مثل قيام عمرو واكد بقطع جبهته بالمطواه أو وكذلك المعارك الدامية بين "الأبيض" ورجال زرور ولكن في رأيي المتواضع تصوير هذا الواقع كان يجب أن يكون بنفس قسوته حتى يوصل الرسالة بنفس الفعالية والتأثير المطلوبين.
أحد المآخذ التي أخذها المشاهدون أيضا على صناع الفيلم هي عدم وجود منطقية بعض الشيء في المعارك، والمقصود بذلك هو استمرار السقا وأطراف العراك لفترة طويلة جدا على قيد الحياة دونما أن يسقطوا برغم الإصابات الرهيبة التي لحقت بهم، وأعتقد أن هذا أيضا مبرر من خلال تعاطيهم لمواد مخدرة لا تشعرهم بالألم وهو ما قاله أحد رجال زرزور لإبراهيم الأبيض مستغربا من صموده.. أنت مبلبع إيه هااا؟
هذا بالإضافة إلى ضعف الأداء الرومانسي بعض الشيء عند أحمد السقا بشكل خاص وفي الفيلم بشكل عام حيث غلب عليها الطابع الجنسي كما هو واضح في مشهد القطار، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى افتقد المؤلف لبعض من منطقيته عندما حكم على زرزور أن يقبل بأن يتزوج حورية بدون أن يلمسها وهو شيء من الصعب تصديقه بالنسبة لشخص يحب امرأة بهذا الشكل.
ولكن في النهاية لا يمكننا أن ننكر أن فيلم إبراهيم الأبيض نقلة في السينما المصرية سواء على مستوى الإخراج أو التمثيل أو الموسيقى التصويرية فهو عمل كامل متكامل أعاد إلى السينما المصرية ثقتها بنفسها وأدخلها في مصاف العالمية